مقالة
عندما قررت روسيا العودة للساحة الدولية بعد ان ظن العالم كله وخصوصا الولايات المتحدة الامريكية بان روسيا لن تستطيع العودة بقوة اطلاقا او على الأقل قبل قرن من الزمن لكن يظهر ان بوريس يلتسن الذي كان صديقا للناتو وخادما للولايات المتحدة الامريكية له راي سريٍ ثانٍ بعد ان اوكل مهمة رئاسة الوزراء لفلاديمير بوتين كأنه يرى فيه ما يجب ان يكون وكي يتمرس جيدا لمناصب رئاسية قبل ان يصبح الزعيم القوي لروسيا الغد. أعاد بوتين لروسيا هيبتها بل وأكثر وما نشاهده اليوم ليس إلا قوة الاتحاد السوفيتي السابق إن لم يكن أكثر. بوتين الذي استطاع دفع ديون الاتحاد السوفيتي السابق كلها نيابة عن باقي دول الاتحاد ولم تدعي روسيا بان الديون هي على اتحاد انتهى وتهرب منها بل اخذ هذا الموضوع على محمل الجد وكان دفع الديون اظهار قوة فعلية على مدى السنين التي استمرت لدفع تلك الديون. عادت روسيا بقوة إذن وما على الناتو إلا ان يتقبل الامر بكل جدية وندية وبدأت قصة الحرب الباردة مرة أخرى وان ينكرها الاعلام فالأمر يفرق بان روسيا بوتين تعي معنى العزلة والجلوس داخل معسكر العقيدة المتزمتة وان العالم يتغير حيث لا ننسى ان بوتين لم يكن شيوعيا حد النخاع إنما روسياً قوقازياً جينياً فكراً وعقيدة حتى النخاع وهذا فرق كبير فهو الذي كان في الـ KGB لكنه استقال منها لعدم رضاه عن سياستها وفي زمن الاتحاد السوفيتي نفسه وقد ذكر في عدة لقاءات بانه لم يكن يحب عمله هناك كثيرا لذلك تركه وكانت له اعتراضات على مبدأ الاتحاد السوفيتي بل والشيوعية برمتها وذلك ما يفسر بان الحزب الشيوعي الباقي الان في روسيا هو اكبر المعارضين له وهي عادة شيوعية بالية أودت بالحزب يوما ولازال الحرس القديم متمسك بها عاطفيا لا اكثر. استشعرت روسيا خطر التخطيط لمحاصرتها من قبل الناتو والعمل الدؤوب ضدها خصوصا بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 حيث شاركت روسيا بكل قوتها في الحملة الدولية المضحكة على تنظيم القاعدة وحركة طالبان التي كانت تحكم بقايا أفغانستان وبعد فترة تأكدت روسيا بان الامر ليس كما هو مُعلن فبدأت بالانسحاب من الحلف بل وصلت الأمور بان القيادة الروسية وبشكل رسمي أعلنت ان احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 هي عمل داخلي inside job أي تمت بتخطيط من فريق او تيار سري داخل الإدارة الامريكية وليس له علاقة لا بطالبان ولا بالقاعدة وان القصة الرسمية التي اطلقتها الإدارة الامريكية واقنعت العالم ترهيبا وترغيبا بها ليست إلا تلفيق ومحظ خيال لتمرير خطة العالم الجديد New World Order والتي اطلقها علنا الرئيس الأمريكي جورج بوش الاب عام 1990 بمساعدة لوبي الصقور لإيجاد سبب يجعل الامريكان يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة في دول العالم وحتى العظمى منها والصديقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال ما كان يُعتقد انه خطر على الناتو. لا تستمر الهيمنة الامريكية او الناتو بلا عدو حقيقي موجود على الارض ولو كان صغيرا لكن هذه المرة العدو مطاطي وموجود في كل مكان تدعي أمريكا انه موجود فيه. الم تنشئ حتى معسكرات تعذيب سرية داخل دول عضوة في حلف الناتو مثل رومانيا والمجر! الم تتدخل في دول الخليج الحليفة لدرجة ان مركز الامارات للدراسات الاستراتيجية تم اغلاقه بأمر من كولن بأول الذي طار على عجل إلى أبو ظبي بعد ان سمع مدير المركز يقول في محاضرة عامة بان احداث الحادي عشر من سبتمبر هي عمل داخلي وان القصة الرسمية غير صحيحة بل تم تهديم بناية المركز ايضا عن بكرة ابيها واحالة مديره وهو أحد شيوخ عائلة آل نهيان الحاكمة الى الإقامة الجبرية وتجريده من كل مناصبه في غضون ساعات فقط دون ادنى اعتراض من قبل الحكومة الإماراتية اطلاقا بل تم التكتم على الامر برمته لكن هكذا أمور لا تخفى اطلاقا فالحدث كبير وعلني بل وتم وقتها الغاء جميع برامج إذاعة أبو ظبي للقران لدرجة ان الإذاعة كادت ان تُغلق لكنها استمرت فقط في إذاعة آيات القران والاحاديث فقط وتم منع الخطب وبرامج الأسئلة الشرعية وبرامج التوعية ونشر الدين وما إلى ذلك من برامج. نعود الى روسيا التي تأكدت بعد شكوك بان الامريكان يخططون ومعهم الناتو لما هو ابعد من القضاء على طالبان والقاعدة وما يسمى بالإرهاب ولا ننسى خطة محور الشر التي وضعها فريق الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلينتون والتي تصرخ علنا العراق – إيران – كوريا الشمالية. ولم تذكر أفغانستان فالأمر يبدو انه تم تعديله او للتمويه فأفغانستان وقت صدور هذه الخطة كانت غارقة في حرب أهلية بين شركاء الامس. فقد حاولت دول كثيرة ومنها السعودية ودول اوروبية ان تعقد مؤتمر لتعريف الإرهاب بعد احداث سبتمبر 2001 وان الامر لا يجب ان يظل مفتوحا فضفاضا هكذا حيث تبدلت علامات وشروط من تقع عليه التهمة عدة مرات بل شملت أناس لا يصنفون تحت هذه المصنفات فكانت أمريكا هي من ترفض أي تعريف للإرهاب وفشل اول مؤتمر عقد لهذا الموضوع وظل تعريف الإرهاب كلمة فضفاضة وتهمة تناسب أي مقاس تراه الولايات المتحدة مناسبا لأي مناسبة وجهة لا تسير بمحورها وتكون منافسا لها. جاءت أمريكا للعراق ودمرته بالكامل وشردت شعبه بحروب أهلية طائفية لم تشهد لها المنطقة مثيل منذ عقود بل قرون وأيضا لنفس السبب وهو الإرهاب ثم تراجعت عنه بعد الاحتلال فحاولت سحب إيران من تحت العباءة الروسية بإهداء العراق لها وتسليمه كاملا بطرق بشعة قل نظيرها كيف لا وإيران لم ترى نصرا على العراق والعرب منذ ما يزيد على ستمائة سنة لا سيما الثأر القديم لحرب الثمان سنوات التي اذاق فيها العراق بقيادة صدام حسين إيران مر الهزيمة وجرع الخميني سُم الذل. ظنت أمريكا بان إيران ستتخلى عن روسيا عرفانا للجميل هذا او تتخلى روسيا عن أيران بعد الاتفاق النووي فتكون قاعدة بعد ذلك مجاورة لروسيا ومن جهة أخرى خلق بعبع مرعب في المنطقة بعد صدام حسين لاستنزاف دول الخليج الحليفة حيث وجدت السعودية نفسها بعد سقوط نظام صدام حسين بان إيران أصبحت جارة لها بل وجارة مرعبة حيث لها طموحات نووية وطائفية توسعية فإيران يحكمها مجلس ثورة وهدفها تصدير ثورة الخميني وليس تصدير شيء اخر وان أمريكا الحليف القديم لا يفعل أي شيء حيال هذا بل اتضح انها تساعد نظام طهران في التوسع. نجحت السعودية ودول الخليج في قلب المعادلة ولم يكلف الامر سوى بضع فتاوى جعلت الحلم الأمريكي في العراق وسوريا وليبيا في مهب الريح بل أوصلت أمريكا لحد التخبط لا سيما في فترة الرئيس السابق أوباما الذي تم استقباله في الرياض من الباب الخلفي للقصر من قبل نائب امير الرياض وليس حتى امير الرياض فردت أمريكا وبمساعدة ذيلها الجديد إيران بخلق داعش بعد القاعدة وعاث داعش في المناطق السنية ما لم يفعله هولاكو نفسه بل لم يفعله هتلر باليهود فكانت الرسالة واضحة. فعزمت السعودية على سحب البساط أكثر وبدأت بفتح خزائنها لنمور اسيا فدق ناقوس الخطر في لوبيات الحكم الرأسمالية في الولايات المتحدة الامريكية حتى جاء رئيس لا زال يُعتبر مفصلا على مقياس المرحلة القادمة. نجحت أمريكا والدول العظمى في كبح جماح طموحات إيران النووية كي تبقى فقط قوية على جيرانها ولو بالشعارات والتهديدات وبدأت مرحلة تنفيذ خطة تفتيتها وزادت وتيرتها بوصول دونالد ترامب للبيت الأبيض فعرفت روسيا بان إيران أصبحت الحصان الخاسرة لها في المنطقة لا سيما ان الولايات المتحدة الامريكية بدأت بغربلة فترة داعش بل واحتمالية الغائها بالمرة او قد ستبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة داعش في المغرب العربي. الدول العظمى واتكلم هنا عن روسيا وبوتين ليسوا من الغباء بان لا يعرف خفايا الأمور وما بين السطور لا سيما ان إيران وان كانت تتلقى دعما روسيا فأنها في النهاية نظام تم خلقه في فرنسا في سبعينيات القرن الماضي من قبل فلاسفة ومنظري الناتو أنفسهم ثم ايصاله للسلطة عام 1979 وبطائرة فرنسية امام الملأ كي يتصدى للقوة الناشئة في المنطقة وهي العراق الذي كان في ذلك العام قد بدأ بتنفيذ خطته الانفجارية لتطوير العراق وبميزانية مليارية في ذلك الزمان.
كوريا الشمالية، الشرير الثالث في خطة محور الشر الشريرة هي بالذات. ادركت هنا الصين أيضا ان الولايات المتحدة الامريكية سائرة في محاصرتها وان كل الامر في حروبها في المنطقة ليس إلا خلق قواعد عسكرية وحكومات عميلة لها لتنفيذ اجندتها كما طبقتها في أمريكا الجنوبية بخلق دول جمهوريات الموز Banana Republic التي يحكمها الفساد من راسها إلى اخمص قدمها وترزح تحت فقر مدقع وفساد اداري ومالي رغم انها دول غنية فها هي فنزويلا تصارع البقاء وهي دولة نفطية وتصدر اكثر من 80% من احتياجات الولايات المتحدة الامريكية للنفط لكن أمريكا لا تمس السلطة هناك بشيء عملي او تعمل لإسقاطها اطلاقا وتكتفي فقط بحملات إعلامية من صنف خبر لمدة دقيقتين في كل سنة وكفى. فوعت الصين الان مع روسيا بان الناتو لم ينشر الديمقراطية كما يدعي في الدول التي احتلها بل عاث بها فسادا ودمارا وما كوريا إلا هدف أخير كي تتم عملية التطويق.
لو نظرنا الى خريطة المنطقة لوجدنا إن الان لدى الولايات المتحدة الامريكية فقط أكثر من 45 قاعدة عسكرية تحيط إيران وهذه القواعد العسكرية ليست للاصطياف او لنشر الديمقراطية إنما لأمر ثانٍ. إيران محاطة بجمهوريات الموز الان من جهتين أفغانستان والعراق والاتفاق النووي مع إيران جعلها دولة ضعيفة ترزح تحت عقوبات ليس لها نهاية اطلاقا مع غليان في الداخل سيكون انفجاره حتمي ومجرد مسالة وقت فكان لزاما على هذه الدول تقوية كلب لا يخشى النسر الأمريكي ولا حلف عجوز يعاني من نقص في التمويل من كبار أعضائه وهو حلف الناتو الذي صرح مرارا رئيسه الأسبق بان الحلف في أضعف اوقاته منذ نشأته بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة نقص التمويل الحاد مما اثر على ميزانيته ونوعية الأسلحة والتدريب الذي يملكه او الذي يجب ان يستملكه.
ها هي بيونغ يانغ تفعل ما تريد ولا ننسى انسحابها المفاجئ من الاتفاق النووي المبرم مع الولايات المتحدة والدول الضامنة. تجارب صاروخية عابرة للقارات لم تستطع الولايات المتحدة الامريكية من مجابهته إلا باستعراض طائرات قديمة من قاعدة في جزيرة نائية لن تصمد في معركة لأكثر من 45 دقيقة هذا ان بقيت تطفوا على سطح الماء بعد اول موجة صواريخ.
تفعل بيون يانغ ما يحلو لها بل تصريحات بوتين ولافروف تقول الكثير لا سيما بعد العقوبات الأخيرة ضد روسيا منها اغلاق مقرات قنصلية روسية في الولايات المتحدة دون سابق انذار او سبب معلن الامر الذي تلاه تصريح من لافروف بان الرد سيكون قويا ولم تمض إلا اقل من 4 أيام ودوت تجربة قنبلة هيدروجينية في كوريا الشمالية اهتز العالم لها لا لكونها تجربة لسلاح دمار شامل وحسب انما لان القنبلة لم تكن تحت علم المخابرات الامريكية ولا الناتو بأقمارهم التي تستطيع ان تكشف مرض هشاشة العظام لسمكة في قعر المحيط الأطلسي, لكن يبدو ان هشاشة العظام وصلت لهذا الحلف العجوز فوجهت كوريا الشمالية صفعة وتلتها صفعات بعد ان تأكد للجميع بان بيونغ يانغ دولة نووية وبتصريح من قبل روسيا نفسها وليس من قبل بيونغ يانغ وها هي أمريكا والناتو يحاولون التفاهم معها وبطرق دبلوماسية غير معهودة سابقا ابدا من حلف اجهز بكل قوته وطائراته على النظام الليبي السابق فقط بحجة حقوق الانسان بسبب مظاهرات خرجت كما ادعى الحلف في بن غازي واتضح انها كانت مشكلة قبلية بين قبيلتين لا اكثر ولم تثار فيها رصاصة واحدة. واجهزت أمريكا وبريطانيا على العراق أيضا لأسباب اتضح فيما بعد كما ذكرت انها كاذبة وباعترافهم هم.
مقارنة بتصرفات الناتو مع دول لم تفعل حتى عُشر ما تفعله بيونغ يانغ بل تلك الدول لم تهدد أمريكا قط بالمقارنة سنرى ان هناك موقف جديد للناتو وان هناك قوي جديد على الساحة الدولية مدعوم بقوتين عظميتين هما روسيا والصين. فإيران يبدو ان امرها انتهى كحلم نووي لكن كوريا الشمالية تحكمها عقيدة ليست بالبعيدة من عقيدة الصين وروسيا بل هي من صلبهما فصارت الان لاعب تبحث الولايات المتحدة له عن قنوات للتفاهم والتباحث معه لدرجة ان الزعيم الشاب كيم يونغ اون وجه شتائم لدونالد ترامب لم توجه لرؤساء الولايات المتحدة الامريكية مجتمعين منذ ان يوم تأسيسها.
لا اود ان اغلق بالتكهنات القطعية فالسياسة هي فن المُمكن وعنصر المفاجأة قد يكون موجود لكن هذا عنصر الاحلام في السياسة هو الذي ليس له أي وجود فالسياسة وقائع وتوقيتات وخطط لا تكهنات وعواطف وضرب بالرمال. فوفق المعطيات الحالية على ارض الواقع فالأمر يقول ان هناك تنازلات من الناتو باتت تطفوا على الأرض فلا ننسى ان الناتو خسر معركة سوريا ليس ببقاء الأسد الذي سينتهي امره عاجلا ام اجلا من قبل روسيا نفسها لكن بإقصاء روسيا بعيدا عن حلمها بالوصول للمياه الدافئة ومجاورة إسرائيل بقواعدها. روسيا قاب قوسين او أدنى من عرين الأسد وهو الخليج الذي بدأت السعودية تغازل اسيا وموسكو عليه وعلى ثرواته منذ أكثر من سنتين فالأمر مغري لبوتين تاريخيا بان يجلس صديقاً وحليفاً استراتيجيا لدول المنطقة بدل أمريكا بعد ان سيطر على سوريا وكسر انف الناتو.
Comments