الإعلام له وظيفة واحدة لا غير وهي غسل أدمغة الأغلبية لا تثقيفها او توجيهها توجيها صحيحاً فهذه وظيفة التربية والتعليم, حيث الأغلبية لا تشغل نفسها بالتفكير المبني على البحث والتقصي للمعلومة من مصدرها بعيدا عن التحيزات العاطفية (قبيلة او معتقد ديني او انتماء حزبي او مصلحة خاصة الخ) وهذا ما يوفر للإعلام سوق ضخم ومتجدد فيتم يخلق قطيع يصفق ويقفز على صوت سياط صاحب السيرك.
يردد الإعلام الغربي كعادته منذ اكثر من 30 عاماً عبارة "عقوبات اقتصادية" ضد اي مخالف لأوامره وكأن العالم الغير غربي يجب ان يكون قطيع يدور تحت صوت سياطهم في نفس الوقت الذي يجلجلون ويصرخون ويدعون بحرية الرأي والتعبير وتقرير المصير الخ من شعارات باتت منتهية الصلاحية لكنها متوفر على رفوف الدكاكين العتيقة والظاهر ان مقصدهم من " تقرير المصير" هو عن طريق تنصيب دمى يتم تحريكها عن بعد وقرب كي تقرر مصير شعب او اتجاه سياسي معين فيتم دعمه بوسائلهم المعروفة (إعلام و مؤامرات و ديون بنكية مليشيات مسلحة) فإن حاول احد كشف او قلب الطاولة على راس هذه الدمى أقاموا الدنيا واجهزوا عليه بطائراتهم وصواريخهم ووسائلهم الإعلامية لاستعادة (حرية تقرير المصير) وفرض رأيهم بالقوة ولا ادري كيف يكون رأي حُر ويُفرض بالقوة القهرية والعسكرية !
فيما يخص استرداد أوكرانيا من قبل روسيا فالإعلام الغربي الذي ينطق بلسان الساسة الأوروبيين وكذلك دمى البيت الأبيض الأمريكي نلاحظ انهم هذه المرة يؤكدون على "العقوبات الاقتصادية" فقط, فعدوهم هذه المرة يجلس على نفس الطاولة ويملك من الأسلحة والأدوات ما يدفن دولهم وشعوبها بثواني دون رد حتى.
ما حقيقة الـ "عقوبات الاقتصادية " هذه !
الاتحاد الأوربي والولايات المتخبطة الأمريكية تستعمل هذا الأسلوب ضد الدول الضعيفة او الصغيرة حصرياً منذ عقود طويلة وهي ألية قذرة وغير إنسانية بحتة وهي موجهة فقط ضد شعوب تلك الدول التي ترفض الرضوخ للدول العظمى ولإملاءاتها ولم يثبت أبدا أنها استعملت مباشرة او فقط ضد شخصيات او قيادات تلك (الدول المعادية) لها ولم يثبت التاريخ أنها أضرت اي حكومة او رئيس إطلاقا والغرب يعلم هذا علم اليقين وقد افتضح هذا الأمر في اكبر جريمة ارتكبوها وهي حصار الشعب العراقي الذي امتد لأكثر من 13 سنة (1990 – 2003) قُتِلَ فيه الآف الأطفال بل فاق عدد الأطفال الذين ماتوا جراء الحصار بسبب نقص الدواء والغذاء النصف مليون طفل بالإضافة إلى عشرات الآلاف من النساء والشيوخ والمصابين بالأمراض المزمنة كذلك التدمير الممنهج لوسائل وبنى المجتمع المدنية واقصد التعليم والصناعة والبنى التحتية وهي كلها أدوات يستخدمها الشعب لكنها لم تنجوا من هذه الجريمة التي يسميها الغرب "عقوبات اقتصادية" ومع ذلك يرفع شعار حرية الرأي الأخر والتعبير وتقرير المصير و و الخ. لكن لم نرى "عقوبات اقتصادية" مثلا ضد قبائل غرب الخليج التي تنتهك حقوق الإنسان بل لا وجود لشيء بمعنى إنسان في قبائلهم وتضطهد حتى العاملين الوافدين لديها لكن لم تفرض عليهم اي "عقوبات اقتصادية" ما داموا يدفعون الاتاوات ويرقصون على صوت السياط دون أدنى نقاش, فلتذهب حقوق الإنسان عندئذ إلى الجحيم.
اكرر, أن "العقوبات الاقتصادية" المزعومة هذه لم تستهدف اي حكومة او زعيم إطلاقا بل هي تستهدف الإنسان العادي إذن هي جريمة دون أدنى شك وهي جريمة القتل العمد مع سابق تخطيط وتبرير ان العقوبات على الشعب ستزيد الضغط وتسقط الحكومات هي حجة وتبرير لم يثبت التاريخ أيضا أنها نجحت بالفعل او حتى أثرت, فهل أسقطت العقوبات نظام كاسترو او نظام صدام حسين او نظام هوغو شافيز او نظام مادورو الحالي في فنزويلا او نظام كم ال سونغ في كوريا الشمالية او اي نظام لم يرقص على صوت سياطهم !
الوضع حاليا
لنرى ما سيفعله الغرب في "العقوبات الاقتصادية" المزعومة ضد روسيا (أنا لا اطبل ولا ادعم سياسة اي دولة إطلاقا خصوصا الدول العظمى فالجميع مجرمين وايديهم ملطخة بدماء الشعوب البريئة بلا استثناء لكن التحليل يجب ان يكون مهني حيادي بحت)
أوروبا تستورد قرابة 50% من احتياجاتها من الغاز من روسيا (غازبروم لوحدها تصدر 40% من احتياجات اوروبا للغاز) والحديث عن إيجاد بدائل هو نكتة بل نكتة سخيفة فلا يوجد على وجه الأرض مكمن غاز يستطيع تعويض احتياجات أوروبا من الغاز في حالة إيقاف الروس بأنفسهم إمداد الغاز لأوروبا أخذين بعين الاعتبار العناصر التالية :
1. قرب مصدر الغاز الروسي من الأسواق الأوروبية الأمر الذي يساهم في عرض سعر غاز مغر جدا لأوروبا.
2. طريقة نقل الغاز من المصدر إلى المستهلك مرورا بمناطق إعادة الضخ والإنتاج آمنة جدا بل بالمطلق فكلها داخل أوروبا.
3. ازدياد الطلب على الطاقة ومنها الغاز (مقارنة بالمُنتج المعروض في السوق) بعد ان بدأت حرب كورونا تضع أوزارها الأمر الذي سيُصعّب إيجاد مصدر بديل مضمون وطويل الأمد لاحتياجات أوروبا من الغاز وهي التي تمني شعوبها بانفراج اقتصادي بعد سنتين من حرب كورونا التي عصفت بهم.
4. أعلنت النرويج وهي ثاني اكبر مورد للغاز لأوروبا رسميا أنها تزود أوروبا بالغاز بأقصى طاقتها وليس لديها إمكانية تعويض الإمدادات الروسية إذا ما فُقِدت.
هذه العناصر ستنفجر بوجه الاتحاد الأوروبي إذا ما قرر الاستغناء عن الغاز الروسي واشك في هكذا قرار إلا إذا كان الاتحاد الأوروبي تبنى عقيدة الانتحار الجماعي وللأسباب التالية:
1. استيراد الغاز من مصدر خارج الاتحاد الأوروبي سيكون مكلف جدا بل لدرجة غير مسبوقة تاريخيا الامر الذي سيرفع من فاتورة المستهلك الأوروبي المتضجور حاليا بشكل غير مسبوق تاريخيا وبالتأكيد سيثير هلع الشعوب الأوروبية على مستقبلها التي لا تخاف من شرطة السلطان وجلاوزته وستخرج الى الشارع بعنف وحتما ستعجل بسقوط حكومات أصلا هشة مكروهة لاسيما بعد مهزلة إجراءات حرب كورونا التي أضافت كرها وانتقادا خطيرا لها من قبل عامة الشعب ومؤسساته المدنية بل حتى برلمانات هذه الدول زادت نقمتها على صناع القرار.
2. زيادة فاتورة الغاز على المستهلك الأوروبي (سواء مصانع او افراد) سيجعل المنتج الأوروبي من أغلى المنتجات في العالم سواء داخل سوق الاتحاد الأوروبي (التضخم تجاوز 2% عام 2021) او خارجه الامر الذي سترقص له الصين (التضخم لديها اقل من 1% عام 2021 وارتفع هذه السنة لاقل من 1.8 بتعمد حكومي) والهند وحتى موزمبيق لانه سيقتل المنافسة الأوروبية المعروفة بمنتجاتها العالية الجودة فالسعر يعتبر عامل أساس في تحديد توجهات المشتريين وهذه قاعدة اقتصادية وتسويقية لا جدال فيها, الامر الذي يوجه دعم اقتصادي تاريخي مباشر إلى أسيا وافريقيا وهي أسواق بدأت تخرج من تحت وصايا الاستعمار القديم (أشير هنا الى مقالة قديمة لي بعنوان ولادة اكبر حلف اقتصادي في العالم بدون امريكا واوروبا)
3. زيادة الكلفة الى مستويات غير مسبوقة تاريخيا سيشجع ذوي رؤس الأموال الأوربيين سواء شركات او مصانع من نقل مصادر انتاجهم واداراتهم الى خارج الاتحاد الأوروبي وبالتأكيد صوب آسيا مما يزيد من البطالة ويقلل عوائد الضرائب ويضرب الإبداع والاختراعات في مقتل لأول مرة في تاريخ أوروبا المعاصر بل وحتى داخل الولايات المتخبطة الأمريكية.
4. استيراد الغاز من مصادر خارج أوروبا هي مجازفة أمنية فإمدادات الطاقة يجب عن تكون من مصدر امن جدا (القرب يعتبر نقطة أمان اساس) وإلا فإن اي انقطاع او خلل في الإمداد سيولد كارثة وليس مشكلة في البلد المستورد, فعلى سبيل المثال لا الحصر استيراد الغاز من قطر كبديل مطروح نظريا وإعلامياً, يجب ان يمر من اخطر مضيق مائي وهو مضيق هرمز الذي لإيران يد في زعزعته بل السيطرة عليه بسهولة بالإضافة الى التوغل السياسي الروسي في المنطقة عن طريق إيران والتي لها يد ضاربة في اليمن وهي مليشيا الحوثي اخذين بنظر الاعتبار انحسار النفوذ الامريكي في تلك المنطقة والتي لطالما كانت منطقة نفوذ غربي لضمان استمرار إمدادات الطاقة (كانت منطقة الخليج توفر اكثر من 70% من احتياجات العالم للطاقة) لكن الآن تغير الأمر وهذه نقطة خطيرة وأساسية في قلب موازين القوى الدولي.
5. استيراد الغاز من مصادر بعيدة جدا كالولايات المتحدة (لا تستطيع تلبية اكثر من 2 – 3% من حاجة أوروبا بل تحلم ان تصل الى 10% في المستقبل القريب) وقطر سيفرض كلفة مركبة فهو سيتضمن كلفة الشحن بالإضافة إلى فرض بناء منشآت جديدة او توسعة وتطوير الموجودة للتعامل مع هذا التغيير الامر الذي سيضيف كلفة اخرى بالإضافة إلى ان قرار إنشاء هكذا منشآت لن يكون سهلا (لتداخله مع موضوع البيئة والتغير المناخي التي تراهن عليها اوروبا لضرب الصين والاقتصادات الناشئة في آسيا) ولن يكون بالسرعة التي يحاول الإعلام الغربي فبركتها فهي تستغرق شهورا بل سنين طويلة بينما الأمور على ارض الواقع الآن في تسارع وتسير نحو الاسوء كل ثانية فنحن نتكلم عن نظام تزويد طاقة مستمر منذ عقود فمن المحال تغييره في ساعات او ايام او حتى شهور.
6. ستعمد روسيا لضرب اي منافسة وذلك عن طريق إغراء المهربين الأوروبيين (قد تكون ألمانيا اكبر سوق بالفعل لهذا النوع من التهريب وقد فضحه بوتين في مؤتمره الصحفي قبل شهرين) وهم لوبي ضخم وقوي جدا لشراء غاز روسي بأسعار منافسة جدا من طريق طرف ثالث سيكون غير خاضع للعقوبات وهذا اللوبي قوي لدرجة انه يستطيع إسقاط حكومة إذا ما أضرت بمصالحه فدينه وديدنه المال لا الوطن.
7. خنق المنافسة في أسعار الطاقة بسبب "العقوبات الاقتصادية" غباء مُدقع لا يصب في مصلحة الاتحاد الأوروبي حيث خنق المنافسة سيودي بأسعار الطاقة للارتفاع سواء غاز ام نفط, فأوروبا لا تستخدم الغاز فقط بل النفط كذلك لكن الإعلام الغربي يركز على الغاز في محاولة لخلق رعب لدى الروس وإيهام شعوب أوروبا بان ورقة الغاز هي بيدهم وطبعا الأمر ليس كذلك أبدا (تستهلك امريكا على سبيل المثال اكثر من 20% من إنتاج البانزين في العالم وحتما سترتفع الأسعار لمستويات جنونية تلقي بأثرها على الوضع السياسي الداخلي المتأزم اصلا وسيتضرر الديمقراط بالذات الان)
8. شركات الطاقة الأوروبية, وهذه هي النقطة الأهم, هل ستسمح بكل هذا وتجلس تتفرج على السياسيين آم هي لاعب أساس لن يكسب كثيرا من ارتفاع الأسعار الجنوني فهناك معدل سعر إذا ما تجاوزه السوق سيبدأ بفرض نتائج سلبية على الشركات النفطية؟
النتائج الواقعية المتوقعة من هذه " العقوبات الاقتصادية"
1. ارتفاع أسعار طاقة إذن ارتفاع الكلفة الصناعية والزراعية وبالتالي المعيشة في أوروبا لمستويات تاريخية غير مسبوقة منذ نشأة الإنسان الأول في أوروبا الأمر الذي سيجعل القلاقل والاضطرابات هي المشروب اليومي للأوروبي بدل القهوة الأمر الذي يجعلها مراكز طرد للمهارات التي تزخر بها أوروبا وستجد ان الصين واندونيسيا والهند وبعض الدول الأخرى من آسيا هي وجهة هذه المهارات وليس للاتحاد الأوروبي بديل لتعويضها إلا بزيادة أُجور هذه المهارات لضمان عدم هروبها (هنا ستلقي بكلفة إضافية بالإضافة للتي ذكرتها انفا) او تعويضها من خلال المهاجرين الجدد الذين لا يفقهون معنى النوعية والإخلاص في العمل إطلاقا الامر الذي سيلقي بضلاله على سمعة المنتج الأوروبي خلال فترة اقل من 10 سنوات لصالح منتجات دول اخرى سواء من الصين او حتى منتجات جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية.
2. كساد قد يخنق الاقتصاد الأوروبي سيدفع حكومات الاتحاد بالتفكير بدعم السوق محليا فقط وهذه النقطة مرتبطة بالأولى فتجعل السوق الأوروبية تتجه بسرعة للانحسار بل حتما ستفقد قوتها وزخمها أمام المنتج الخارجي سواء الصيني او غيره والذي أصلا بدأ بالفعل قبل حرب كورونا.
3. تبلور حالة جديدة في السوق الأوروبية كنتيجة حسب ما ذكرته في الفقرة 1 و 2 سيجعل معدلات البطالة ترتفع في الاتحاد الأوروبي وهو الكابوس الذي تحاول حكومات الاتحاد تلافيه بل يعتبر الكابوس الأكبر الذي تحاول ان تستيقظ منه من بين كل الكوابيس بل اكثر من كابوس الإرهاب الذي ضربهم قبل عدة سنين لكنه لم يقتل الاقتصاد وهذا أمر في غاية الأهمية فقوة الاتحاد الأوروبي تكمن في اقتصاده لا بأي عامل ثانٍ.
خلاصة القول
مَن المتضرر فعلياً من "العقوبات الاقتصادية" على روسيا ؟
مَن المتضرر إعلامياً "من العقوبات الاقتصادية" على روسيا؟
روسيا ليس لديها إعلام قوي مثل الإعلام الغربي فالإعلام الروسي تنقصه القذارة والفبركة والمسرحيات والقصص الملفقة التي تستمد قوتها وحبكتها من ما يسمى منظمات المجتمع المدني التي هي في حقيقتها مواخير تجسس سياسية لا اكثر وبلا استثناء.
فخسرت روسيا إعلاميا كالعادة . . لكن الاتحاد الأوروبي لن ينجوا من عملية الاحتراق العكسي Back fire لما يسميه "العقوبات الاقتصادية" التي لم يثبت التاريخ أنها تستطيع الإضرار بحكومة صغيرة فكيف الحال بدولة عظمى تقف إلى جانبها دولة عظمى اخرى وكذلك دول صغيرة وناشئة اخرى تسمى الاقتصادات الناشئة Emerging economies سئمت الوصايا الاستعمارية المتعفنة وتريد الخروج بأقرب فرصة وبأي ثمن فليس عندها ما تخسره.
تحيتي
Comments